كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أجاب أهل السنة بأنّ جهاد أبي بكر بالدعوة إلى الدين وهو الجهاد الأكبر وحين كان الإسلام ضعيفًا والاحتياج إلى المدد شديدًا، وأما جهاد علي فإنما ظهر بالمدينة في الغزوات وكان الإسلام في ذلك الوقت قويًا. والحق أنه لا تدل الآية إلاّ على تفضيل المجاهدين على القاعدين، أما على تفضيل المجاهدين بعضهم على بعض فلا. قالت المعتزلة: هاهنا قد ظهر من الآية أنّ التفاوت في الفضل بحسب التفاوت في العمل، فعلة الثواب هو العمل ولهذا سمي أجرًا. وأجيب بأنّ العمل على الثواب لكن لا لذاته بل يجعل الشاعر ذلك العمل موجبًا له. قالت الشافعية: الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأنّ قوله: {وفضل الله المجاهدين} عام يشمل الجهاد الواجب والمندوب وهو الزائد على قدر الكفاية، والمشتغل بالنكاح قاعد، فالاشتغال بالجهاد المندوب أفضل منه بالنكاح.
ثم لما ذكر ثواب المجاهدين أتبعه وعيد القاعدين الراضين بالسكون في دار الكفر فقال: {إنّ الذين توفاهم} وأنه يحتمل أن يكون ماضيًا فيكون إخبارًا عن حال قوم انقرضوا ومضوا. عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانوا قومًا من المسلمين بمكة فخرجوا في قوم من المشركين في قتال فقتلوا معهم فنزلت الآية. ويحتمل أن يكون مستقبلًا بحذف إحدى التاءين فيكون الوعيد عامًا في كل من كان بهذه الصفة. قال الجمهور: معنى {تتوفاهم} تقبض أرواحهم عند الموت. ولا منافاة بينه وبين قوله: {الله يتوفّى الأنفس} [الزمر: 42] {قل يتوفاكم ملك الموت} [السجدة: 11] لأنه تعالى هو المتوفى والفاعل لكل الأشياء بالحقيقة إلاّ أن الرئيس المفوّض إليه هذا العمل ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه. وعن الحسن: {توفاهم الملائكة} أي يحشرونهم إلى النار. أما قوله: {ظالمي أنفسهم} فمنصوب على الحال عن مفعول توفي والإضافة فيه لفظية ولذا لم تفد تعريفًا فصح وقوعه حالًا. والظلم قد يراد به الشرك {إنّ الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] فالمراد أنهم ظالمون أنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة. وقد يراد به المعصية {فمنهم ظالم لنفسه} [فاطر: 32] فالمراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك غير مهاجرين إلى دار الإسلام حين كانت الهجرة فريضة. وفي خبر «إنّ» وجوه: الأول {قالوا فيم كنتم} والعائد محذوف للدلالة أي قالوا لهم. الثاني {فأولئك} فيكون {قالوا} حالًا من الملائكة بتقدير «قد». الثالث إنّ الخبر محذوف وهو هلكوا. ثم فسر الهلاك بقوله: {قالوا فيم كنتم} أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ والمراد التوبيخ على ترك الجهاد والرضا بالسكنى في دار الكفر وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم ليسوا من الدين في شيء، ولهذا لم يجيبوا بقولهم كنا في كذا أو لم نكن في شيء بل أجابوا بقولهم: {كنا مستضعفين} اعتذارًا مما وبخوا به واعتلالًا بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة من أرض مكة حتى يكونوا في شيء.
ثم إنّ الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر فبكتوهم قائلين: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمتنعون فيها من إظهار دينكم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين من الرجال والنساء والولدان. فسئل لم عدّ الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد، ومن حق الاستثناء أن يدخل فيه المستثنى لو لم يخرج وليس الولدان من أصحاب الوعيد لأنهم ليسوا من أهل التكليف؟ وأجيب بأنّ المراد بالولدان العبيد والإماء البالغون، أو المراد المراهقون الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء حتى يتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله. سلمنا أن المراد بهم الأطفال لكن السبب في سقوط الوعيد هو العجز وإنه حاصل في الولدان فحسن استثناؤهم بهذا الوجه. وقوله: {لا يستطيعون} قيل في موضع الحال، والأصح أنه صفة للمستضعفين. وإنما جاز ذلك والجمل نكرات لأنّ المعرف تعريف الجنس قريب من المنكر. والمعنى أنّ العاجزين هم الذين لا يقدرون على حيلة ولا نفقة، أو يكون بهم مرض، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم عن المهاجرة. ومعنى {لا يهتدون سبيلًا} لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلّهم على الطريق. وإنما قال سبحانه: {فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم} بكلمة الإطماع تنبيهًا على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه حتى إن المضطر من حقه أن يعفو الله عنه بل يكون من العفو على ظن وحسبان لا على جزم وإيقان، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز ولا يكون في الواقع كذلك لأنّ الفطام عن المألوف شديد والفراق عن الأوطان شاق، فلعل حب الوطن يحمله على تأويل غير سديد. ومع قيام هذا الاحتمال أنى يحصل الجزم بالعفو هذا من جانب العبد. وأما من الرب فعسى إطماع وإطماع الكريم إيجاب. فالجزم بالعفو حاصل إلا أنّه يرد على لفظ العفو أنه لا يتقرر إلاّ مع الذنب ولا ذنب مع العجز وجوابه أيضًا يخرج مما قلنا: {وكان الله عفوأً غفورًا} قال الزجاج: أي كان في الأزل موصوفًا بهذه الصفة، أو أنه مع جميع العباد بهذه الصفة أي أنه عادة أجراها في حق غيره. وأيضًا لو قال إنه عفو غفور كان إخبارًا عن كونه كذلك وحيث قال كان دل على أنه إخبار وقع مخبره على وفقه فكان أدل على كونه حقًا وصدقًا. قالت الأشاعرة: أخبر عن العفو والمغفرة مطلقًا غير مقيد بحال التوبة فدل على أن العفو مرجو من غير التوبة. قال ابن عباس في رواية عطاء: كان عبد الرحمن بن عوف يخبر أهل مكة بما ينزل فيهم من القرآن، فكتب إليهم: {إِنّ الذين توفاهم الملائكة} الآية.
فلما قرأها المسلمون قال ضمرة بن جندب الليثي لبنيه- وكان شيخًا كبيرًا- احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدي إلى الطريق. فحمله بنوه على سرير متوجهًا إلى المدينة، فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله وقال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات حميدًا. فبلغ خبره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فقالوا: لو وافى المدينة لكان أتم أجرًا فأنزل الله تعالى فيه: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا} أي مذهبًا ومهربًا ومضطربًا قاله الفراء. وفي الكشاف يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك وأصله من الرغام وهو التراب فإنهم يقولون: رغم أنفه يريدون أنه وصل إليه شيء يكرهه، وذلك لأنّ الأنف عضو في غاية العزة والتراب في غاية الذلة. ويمكن أن يقال: إنّ من فارق أهل بلدته فإذا استقام أمره في بلدة أخرى رغمت أنوف أهل بلدته بسبب سوء معاملتهم معه.
واعلم أنه سبحانه لما رغب في الهجرة ذكر بعده ما لأجله يمتنع الإنسان عن هجرة الوطن، وبين الجواب عنه والمانع أمران: الأوّل أن يكون له في وطنه نوع رفاهية وراحة فيخاف زوال ذلك عنه فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {ومن يهاجر} كأنه قيل للمكلف إن كنت تكره الهجرة عن وطنك خوفًا من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر فلا تخف فإنّ الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب السنية في مهاجرك ما يكون سببًا لرغم أنوف أعدائك، ويصير سببًا لسعة عيشك، وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج المهاجر بدولته من حيث إنها سبب رغم آناف الأعداء أشد من ابتهاجه بها من حيث إنها سبب سعة رزقه وعيشه. المانع الثاني أن الإنسان يقول: إن خرجت من بيتي في طلب العمل والجهاد والمهاجرة إلى الله ورسوله، وفي معناه كل غرض ديني من طلب علم أو حج أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهدًا في الدنيا وابتغاء رزق طيب، فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه، فالأولى أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة لطلب شيء مظنون، فأجاب الله سبحانه عنه بقوله: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} قال بعضهم: ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل، وأما أجر تمام العمل فمحال. والصحيح أن المراد من قصد طاعة ثم عجز عن إتمامها فإن له ثواب تمام تلك الطاعة كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن المريض إذا عجز عما كان يفعله من الطاعة في حال الصحة كتب له ثواب مثل ذلك إلى أن يبرأ» وأيضًا من المعلوم أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر فلا يبقى في الآية فائدة الترغيب. وأيضًا لا تكون الآية جوابًا عن قول الصحابة في ضمرة لو وافى المدينة لكان أتم أجرًا. قالت المعتزلة: في الآية دليل على أن العمل يوجب الثواب على الله لأن الوقوع والوجوب السقوط. قال تعالى: {فإذا وجبت جنوبها} [الحج: 36] أي وقعت وسقطت ولفظ الأجر وكلمة «على» يؤكدان ما قلنا، وأجيب بأنالآننازع في أن الثواب يقع ألبتة لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم. واستدل بعض الفقهاء بالآية على أن الغازي، إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة كما وجب أجره، وُردَّ بأن قسم الغنيمة يتوقف على حيازتها بخلاف الأجر. {وكان الله غفورًا رحيمًا} يغفر ما كان منه من القعود إلى أن خرج ويرحمه بإكمال أجر المجاهدين. ومما يفتقر المجاهد إليه معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو فلا جرم قال: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} يقال: قصر صلاته وأقصرها وقصرها بمعنى. ولفظ القصر مشعر بالتخفيف إلاّ أنه ليس صريحًا في أن التخفيف في كمية الركعات أو كيفية أدائها. والجمهور على أن المراد القصر في العدد وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات وهي الظهر والعصر والعشاء فإنها تصير في السفر ركعتين، ويبقى المغرب والصبح بحالهما، وعن ابن عباس: فرض الله صلاة الحضر أربعًا، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم. وعنه أيضًا أن المراد التخفيف في كيفية الأداء كما يؤتى به عند شدة التحام القتال من الصلاة مع تلطخ الثوب بالدم ومن الإيمان مقام الركوع والسجود ويؤكد هذا الرأي بقوله: {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} فإن خوف فتنة العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على تمام أوصافهما، وإنما يزول بالتجوز والتخفيف فيهما. حجة الجمهور ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف نقصر وقد أمنا وقال الله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم}؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» فهذا الخبر يدل على أنهم فهموا من القصر التخفيف في أعداد الركعات ويؤيده حديث ذي اليدين: «أقصرت الصلاة أم نسيت؟» وأيضًا القصر بمعنى تغيير هيئة الصلاة يجيء بعد ذلك، فجمل الكلام على ما لا يلزم من التكرار أولى. أما تقييد القصر بحالة الخوف فلأن الآية نزلت على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرها لم يخل عن خوف قتال الكفار فلا يمكن الاستدلال بمفهومها على عدم جواز القصر في حالة الأمن ولا في حالة الخوف بسبب آخر، على أن كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة.
ثم إن الشافعي قال: القصر رخصة كسائر رخص السفر فإن شاء أتم وإن شاء قصر لأن قوله: {لا جناح عليكم} مشعر بعدم الوجوب، ولما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت: «اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فلما قدمت مكة قلت: يا رسول الله بأبي وأمي قصرت. وأتممت وصمت وأفطرت. فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ» وكان عثمان يتم ويقصر وما ظهر إنكار من الصحابة عليه. وقال أبو حنيفة: القصر واجب فإنّ صلى المسافر أربعًا ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته لما روي عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرًا صلى ركعتين، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فاقبلوا صدقته» وظاهر الأمر للوجوب. وعن عائشة: أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر. قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فما تصنع بقوله: {فليس عليكم جناح أن تقصروا} قلت: كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانًا في القصر فنفي عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. وأجيب بأن هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم رخصت لكم في هذا القصر، أما إذا قال أوجبت عليكم هذا القصر. وحرمت عليكم الإتمام وجعلته مفسدًا لصلاتكم فلا يخطر هذا الاحتمال ببال عاقل. وحديث ابن عباس إنما يدل على كون القصر مشروعًا لا على أن الإتمام غير جائز، وخبر عائشة لا تعاضده الآية لأن تقرير الصلاة على ركعتين لا يطلق عليه لفظ القصر. ثم إن بعض الظاهريين زعموا أن قليل السفر وكثيره سواء في القصر لإطلاق قوله: {وإذا ضربتم في الأرض} وجمهور الفقهاء على أن السفر المرخص مقدر بمقدار مخصوص، فعن الأوزاعي والزهري ويروى عن عمر أن القصر في يوم تام، وعن ابن عباس إذا زاد على يوم وليلة قصر. وقال أنس بن مالك: المعتبر خمسة فراسخ. وقال الحسن: مسيرة ليلتين. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: من الكوفة إلى المدائن وهو ثلاثة أيام. وهو قول أبي حنيفة قياسًا على مدة جواز المسح للمسافر، وأما أصحاب الشافعي فإنهم عوّلوا على ما روي عن مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان».
والمراد بالبريد أربعة فراسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الذي قدر أميال البادية كل ميل أثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة. قالت الفقهاء: فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر. وقال أهل الظاهر: اضطراب السلف في هذه الأقاويل يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلًا قويًا فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن. {إن الكافرين كانوا لكم عدوًا مبينًا} يريد أن العدواة الحاصلة بينكم وبينهم قديمة فكونوا على حذر منهم. اهـ.